كسر الرئيس بشار الأسد العزلة الدوليّة ومضى إلى العرين الروسيّ في لقاء تاريخيّ يؤسّس لمرحلة جديدة مع رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
بتلك الزيارة، تتأسس الرؤى الجديدة. تحملها القراءات السياسيّة إلى حيث يجب أن تكون، أي بالدرجة الأولى إلى استقرار متين ومتوازن ناشئ من حلّ سياسيّ لا يستثني أحدًا. أيّ حلّ سياسيّ يكون الأسد جوهره. ليست القمة في موسكو عابرة، وليست مجرّد رسالة وجهّت للدول المعنية سواء في الشكل او في المضمون، بل هي حالة رؤية دامجة ما بين الميدان والسياسة. وبهذا المعنى الرابط ثبت في الواقعيّة السياسيّة المتداول بها بأنّ الميدان يبقى المنطلق، وكلّ التفاصيل تنشأ منه وتولد من رحمه. لقد ترجم بوتين ذلك الربط بتعبيره عن الاستعداد الكامل للمساهمة بتسوية سياسيّة تضمّ كلّ القوى السياسيّة والعرقيّة والدينيّة كافة في سوريا. التعبير عن الاستعداد بطبيعته غير منفصل عن الحسم العسكريّ في إطاره الجويّ والبريّ بعنوان واحد مكافحة الإرهاب. والرئيس الروسيّ مدرك من سوريا أو من روسيا، مدى الخطورة الهائلة المتشكّلة بكونيّة الإرهاب وشموليّته، وعلى الرغم من أنّ بوتين انطلق إلى بلاد الشام استجابة لطلب الحكومة السوريّة إلاّ أنّه ذهب وبإدراك تام بأنّ تلك الورقة لم تعد محصورة في مدى جغرافيّ ومستولدة لهدف واحد، أي القضاء على الأسد وخلق نظام فوضويّ في الشرق الأوسط، بل باتت تهدّد الأمن العالميّ في عقر أوروبا وروسيا وحتّى الولايات المتحدة الأميركيّة. لقد كان بوتين صريحًا حين قال: "إنّ محاولة الإرهاب السيطرة على أراض كبيرة في الشرق الأوسط تثير الخوف لدى عدد من دول العالم وتثير قلقنا في روسيا أيضًا، لا سيّما أنّ حوالي 4 آلاف شخص من المنحدرين من جمهوريّات الاتحاد السوفياتيّ السابق على الأقل يقاتلون القوات الحكوميّة في أراضي سوريا". وتأكيدًا على جديّة الحرب ووجوديّتها بالنسبة لسوريا وروسيا على السواء، يكمل بوتين قوله: "لا يمكننا أن نترك هؤلاء يظهرون في الأراضي الروسيّة بعد أن يكتسبوا الخبرة القتاليّة، وينعرّضوا إلى عمليّة غسل دماغ إيديولوجيّة".
في المقابل، أسبغ الأسد الشرعيّة الدوليّة والقوميّة على دخول القوات الروسيّة الميدان لكونه رئيس الجمهوريّة بهالته الشرعيّة وهو الممثّل الأوحد للسيادة السوريّة. وقد حدّد بزيارته آفاق الرؤية السياسيّة بثوابت واضحة تقوم على ضرورة وقف كلّ أشكال الدعم للتنظيمات الإرهابيّة، وفتح المجال أمام الشعب السوريّ لتحقيق تطلعاته وتقرير مستقبله بنفسه. وأكّد قائلاً: "إنّ هدف العملية العسكريّة (الروسيّة السوريّة الإيرانيّة و"حزب الله" المشتركة) هو القضاء على الإرهاب الذي يعرقل الحلّ السياسيّ. وأيّ تحرّكات عسكريّة لا بدّ أن تتبعها خطوات سياسيّة". القمة الروسيّة-السوريّة بابعادها رانية إلى حلّ سياسيّ وخطوات سياسيّة لن تكون واضحةً حلتها الجديدة قبل الحسم على الأرض.
ولكون الزيارة تأسيسيّة، لاحظت بعض الأوساط ارتباكًا واضحًا عند الدول المعنيّة بالحرب في سوريا وعليها من تركيا إلى السعوديّة، والارتباك ناشئ عندهما بشكل الزيارة ومضمونها وتبويبهما أي الشكل والمضمون ضمن رسالة واحدة وجهت لهما من قلب القمّة تظهر ما يلي:
1- لقد أراد بوتين إفهام الولايات المتحدة الأميركيّة وخلفها الاتحاد الأوروبيّ والسعوديّة وتركيا، بأنّ بشار الأسد هو قائد سوريا الأوحد وتاليًا ليس له شريك في القيادة. وهذا عينًا مصدر الارتباك الشديد، وقد حاولوا الالتفاف على ارتباكهم برسائل مشفّرة حاولوا فيها المناورة بقولهم أنّهم يقبلون بقاء الأسد لمرحلة انتقاليّة. وقد توضّح ذلك برؤية بدأت تتكوّن في ذهن رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو بتصريح أعلن فيه قبوله بمرحلة انتقالية يكون الأسد فيها شريكًا. لكنّ الواضح بأنّ الروس على الرغم ممّا يُشاع على لسان نائب وزير الخارجيّة الروسيّ ميخائيل بوغدانوف أو رئيس الحكومة ديمتري ميدفيديف بمحاولة إضفاء بعض المرونة، لكنّها ليست بمرونة رخوة بل صلبة يتطلّعون من خلالها إلى تثبيت الحلّ السياسيّ النهائيّ بخيارات يقولها الشعب، وغالب الظنّ بأنّ الحلّ النهائي سيكون أيضًا وبحسب أوساط روسيّة ببقاء بشار الأسد رئيسًا للجمهوريّة، مع حكومة وحدة وطنيّة تحقّق المشاركة الوطنية، ودستور يعترف بشراكة الجميع في تكوين السلطة والدولة والوطن.
2- لم تعد الحلول السياسيّة التي طرحتها موسكو قبل دخولها المعركة العسكريّة ضدّ الإرهاب صالحة. فلا موسكو ولا جنيف 1 أو جنيف 2 يشكّلون بعد هذا الدخول أطرًا للحل. لقد بطلت تلك الرؤى السابقة كأطر للحل السياسيّ في سوريا. الصّيغة الآن أنّ لقاء فيينا الذي دعا إليه وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف سيركّز في مراحل جديدة تعنى بتوازن القوى في سوريا، وينطلق ذلك من الواقع على الأرض، على القاعدة التي أطلقها الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في سوتشي، وهي "ضرورة أن يتوحّد الجيش السوريّ والعراقيّ وكلّ الفصائل التي تقاوم الإرهاب"... والواقع أن هذا الأمر لم يجلب الحلّ السياسيّ توًّا، ولكنّه حتمًا سيعبّد الطريق نحو الحلّ بصيغ غير خاضعة لابتزاز الغرب والأميركيين بحسب كلام بوتين أيضًا.
3- عودة الرئيس السوريّ إلى الساحة الدوليّة، لم تتحقّق فعليًّا من بوابّة موسكو فقط وحصرًا، ولكن عبر منظومة دول البريكس والتي تمثلها موسكو، وهذا عينًا ما يفسر فخامة الاستقبال الذي أحيط به الرئيس السوريّ أثناء زيارته موسكو.
4- ليست موسكو جادّة في حربها على الإرهاب في اللفظ اليسير، ولكنّ حربها أمست بالعمق الاستراتيجيّ وجوديّة وكيانيّة، هنا الخلاف في المعايير بين الروس والأميركيين، لكون الأميركيين لا يزالون ممعنين في ضبابيتهم في قراءتهم لآفاق الحرب واستثماريين لورقة الإرهاب في هدف تعميم ثقافة الفوضى. ذلك أن تقسيم سوريا بالنسبة للاستراتيجيّة الروسيّة سواء في الحرب على الإرهاب أو استنباط الحلّ السياسيّ كنتيجة حتميّة للحرب، خطّ أحمر ومرفوض. لقد عبّر بوتين جهارًا على رؤيته الواضحة بقوله: "إن تقسيم سوريا سيؤدّي إلى حرب تخرج عن السيطرة" والكلام غير موجّه للداخل السوريّ بقدر ما هو موجّه للأميركيين في مسرى حربهم على الإرهاب، وهي حرب تستثمر الإرهاب لهذا الهدف. لقد قال بوتين في نيويورك ردًّا على سؤال بأنّ نظيريه الفرنسيّ والأميركيّ ليسا مواطنين سوريين ليقررا مصير الأسد، وفي موسكو قال: "مصير الرئيس بشار الأسد يقرره الشعب السوريّ فقط". وفي كلّ الأحوال إنّ موسكو ذاهبة في حربها على الإرهاب حتّى النهاية مع بقية دول البريكس وإيران والعراق و"حزب الله"، وهنا معنى دعوته توحيد الجيشين السوريّ والعراقيّ.
5- الحلّ عند الرئيس السوريّ وبعد القضاء على الإرهاب يتمّ بقبول الرئيس السوريّ الحوار مع المعارضة، وقد نقل السفير الروسيّ في لبنان ألكسندر زاسبكين خلال حواره في اللقاء الأرثوذكسيّ أنّ الرئيس السوريّ أبدى استعدادًا طيبًا للحوار مع الجميع.
6- ظهر بوتين خلال استقباله الأسد شديد الارتياح وغير آبه لأيّة اعتبارات أخرى ولا للأميركيين والأوروبيين والخليجيين والأتراك.
تلك هي آفاق الزيارة بمضامينها السياسيّة والعسكريّة، وما على اللبنانيين سوى أن يغوصوا في الأعماق حتى يتحرروا من سجن الحروفيّة في المواقف على مختلف أنواعها ومعاييرها.